وضعت الزوجة مولودها، مليح الوجه وضَّاء الجبين، وسمّته <ربيعة>، بدت على مخايل الطفل علامات الذكاء فقررت الأم أن تسلم طفلها للمؤدبين، حفظ الفتى كتاب الله وأحاديث رسوله وكلما رأت الأم تفوّق ابنها أغدقت على المعلمين المال لكن الحسرة تشعل القلب وهي ترى الأيام تُباعد بينها وبين زوجها الذي طالت غربته، فقيل إنه أسير مرة، وشهيد أخرى، فاحتسبته عند الله·
يواصل <ربيعة> علمه، مقبلاً على حلقات العلم في مسجد مدينة رسول الله (ص)، ومازال الطالب يجتهد وذكره يرتفع حتى أصبحت له حلقة يُدرِّس فيها.
في ليلة صيف عليلة النسمات، دخل المدينة فارس يلملم بقايا عقده السادس، في عينيه تساؤل وفي نظراته بحث، يُحدِّث نفسه: هل بقيت داره قائمة بعد هذا الغياب؟ ماذا حلَّ بالزوجة! هل وضعت مولودها أم حدث لهم من أحداث الزمان حادث! ثلاثون عاماً كافية لتغيير الملامح والمشاعر والمعالم.
الوقت مازال مبكراً، بقايا المصلين من صلاة العشاء يغادرون المسجد النبوي وتزدحم بهم الطرقات، لماذا يمر الناس به ولا يلتفتون؟ هل نسيه الناس بهذه السرعة؟
يسير الشيخ، يجتر أفكاره، سارحاً مع خيالاته حتى وجد نفسه أمام داره.. دقّ قلبه شوقاً ورهبة من مفاجأة اللقاء. دخل من باب بيته الموارب، يدفعه شوق عارم لملاقاة الأهل.
عندما سمع صاحب البيت صرير الباب، أطلَّ من نافذته، هاله أن يرى غريباً يجوس في صحن الدار، ركبه الغضب وتقدم من الشيخ ممسكاً بتلابيبه.
- أتقتحم عليَّ منزلي يا عدوَّ الله؟
علا صياحهما، واجتمع الجيران.
- ما أنا بعدو الله، هوِّن عليك إنما هذا بيتي <استدار يحدِّث الناس من حوله> هذا بيتي يا قوم، اشتريته بمالي، ألا تعرفونني!! أنا <فرّوخ>هل نسيتم فروخاً.
* * * * *
استيقظت الأم، أطلت فرأت زوجها، أمعقول ما أُشاهد وأرى؟! هالتها المفاجأة، هل أنا في حلم؟
عقدت الدهشة لسانها وما لبثت أن نادت ابنها بصوت مرتجف.
دعه يا ربيعة، إنه أبوك يا ولدي وحذار يا عبدالرحمن أن تمسه بسوء، إن مَن يقف أمامك ابنك.
أقبل الولد على أبيه والوالد على ابنه يضم أحدهما الآخر ويقبّله ونزلت <أم ربيعة> تسلم على ما احتسبته عند الله شهيداً لانقطاع أخباره.
* * * * *
التمَّ شمل الأسرة، شمل الفرح الوالد والولد، ولم يشمل <أم ربيعة>، إذ كيف تفسر لزوجها ضياع أمواله وكيف تبرر له ذلك؟ هل يصدقها أم تهب به الظنون بعيداً؟!
قطع فروّخ على زوجته شرودها·
- جئتك بأربعة آلاف درهم، هات ما لديك حتى نضيف إليه هذا المبلغ ولنبحث لنا عن بستان نشتريه ونعتاش من غلته ما بقي لنا من عمر.
لكن الزوجة تشاغلت عن سؤال زوجها ولاذت بالصمت.
كرر <فرّوخ> طلبه·
- أين المال يا أم ربيعة! هاتيه نضمه لبعضه بعضاً.
ردت أم ربيعة بارتباك: في مكان آمن، سآتيك به بعد أيام إن شاء الله.
* * * * *