تُشكِّل الرسالة الإسلامية، بكامل عناصرها وتعدّد جوانبها، وحدة فكرية وتشريعية وتوجيهية متماسكة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يستقل جانب منها عن جانب آخر.
فالمفهوم العقائدي في الإسلام لا يمكن أن ينفصل عن النص القانوني أو عن القيمة الأخلاقية أو الأفكار والمفاهيم الحياتية، فكلّها تشكل وحدة البناء الرسالي والصيغة الموحدة المتناسقة للشريعة والرسالة الإسلامية.
لذلك، فإنّ موضوع (التربية في الإسلام) لا يمكن أن ينفصل بأيّ حال من الأحوال عن نظرة الإسلام للانسان، وفهمه للكون والحياة، وتفسيره للسلوك والمواقف والأهداف الإنسانية.. وإذن فلنحاول ـ انطلاقاً من هذا التصوّر ـ أن نلقي نظرة على المصادر الأساسية للفكر والمعرفة الإسلامية، فنستنتج منها أهم المرتكزات وأبرز المعالم والمنطلقات الفكرية لمنهج التربية والإعداد الإنساني في الإسلام، لتكون أساساً لتخطيط المنهج التربوي، ومنطلقاً للتعريف بالسياسة التربوية في الإسلام.
ولو مارسنا مثل هذه الدراسة، لاستنتجنا ما يلي:
1 ـ ينطلق المنهج الإسلامي من مبدأ أساس هو الإيمان بنقاء الفطرة، واستعداد النفس الإنسانية لتلقي الخير والشر.
قال تعالى: (ونفسٍ وما سوّاها * فألهَمَها فُجورَها وتَقواها * قَدْ أفلَحَ مَن زَكّاها * وَقَد خابَ مَنْ دَسّاها ) (الشمس/ 7 ـ 10)، (فطرةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها لا تَبديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِك الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم/ 30).
وجاء عن الرّسول الكريم(ص): «كلّ مولود يولد على الفطرة، إنّما أبواه يُمجّسانه أو يُهودانه أو يُنصّرانه».
وجاء عن الإمام عليّ (ع) قوله: «.. وإنّما قلبُ الحدث كالأرض الخالية، ما اُلقي فيها من شيء قبلته».
2 ـ إنّ عوامل البيئة والوراثة تؤثر في شخصية الفرد وحياته تأثيراً سلبياً وإيجابياً، حسب ظروفها وطبيعتها.
قال تعالى: (وَكَذلِك ما أرسَلنا مِنْ قَبلِك في قَريَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا قالَ مُترفوها إنّا وجدنا آباءَنا على اُمَّةٍ وَإنّا على آثارهم مُقتدون) (الزخرف/ 23).
وجاء في الحديث الشريف ما يؤكد دور الوراثة وتأثيرها على شخصية الإنسان: «اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين».
«انكحوا الأكفاء وأنكحوا فيهم واختاروا لنطفكم».
3 ـ إنّ الاستعدادات والملكات والقوى البشرية، هي من حيث وجودها في كافة أفراد النوع الإنساني واحدة.. إلا أنّها تختلف في الدرجة والقوة والضعف. أي أنّ هناك خصائص إنسانية مشتركة بين الجميع، وهناك فروق فرديّة تميّز بين فرد وآخر كملكات الأخلاق واستعداد الذكاء.. الخ.
لذلك فالإسلام يراعي هذه النقطة في التربية والإعداد.. كما يراعيها في التكاليف وترتيب المسؤولية.
4 ـ إنّ الإنسان يملك الإرادة وحرّية الاختيار، وهو مسؤول عن هذا الاختيار، ومحاسب عليه ومجازى به ـ خيراً كان هذا الاختيار أم شرّاً ـ فهو يستطيع أن يصحّح مواقفه، وأن ينتصر على ذاته، وعلى البيئة والظروف المحيطة به، كما يستطيع الانسياق مع تيار الشرّ، والسير مع جموع الضلال، والسقوط في هاوية الرذيلة والفساد.
(وَهَدَيناهُ النَّجدَينِ) (البلد/ 10)، (بَلِ الإنسانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعاذِيرَهُ) (القيامة/ 14 ـ 15).
«لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين..».
5 ـ إنّ التربية عملية بناء وإعداد إنساني وتقويم وبناء للجانب الخيّر من الإنسان وحذف وإلغاء لكل مظاهر السلبية والانحراف، وإنّ المعرفة والثقافة هي دليل عمل، واكتسابها المجرّد ليس بإمكانه إلا أن يبني الفكر وحده: «العلم مقرون إلى العمل، فمن عَلِمَ عَمِلَ، ومن عَمِلَ عَلِمَ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل».
6 ـ إنّ وجود القدوة والمثل الأعلى في التربية هو ركن أساس من أركان التربية الإسلامية، فالشخصية القدوة تمنح عملية التربية والتغيير الإنساني مثلاً حسّياً ملموساً، وقوّة حركيّة تجسّد الفكر والمفهوم بشكل يدفع إلى الالتزام، ويشجع على التفاعل مع الفكرة والمبدأ:
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ اُسوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21)، (اُولَئِك الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبَداهُمُ اقتَدِه) (الأنعام/ 90).
7 ـ التعلّم من أخطاء الآخرين والإفادة من تجاربهم، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ..) (يوسف/ 109)، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قَوَّةً، وَأَثارُوا الأَرضَ وَعَمَرُوها أَكْثَر مِمّا عَمَروها، وجاءتهم رُسُلُهُمْ بالبيِّناتِ فَما كانَ اللهُ ليظلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أنفُسَهُم يَظلِمُونَ) (الرّوم/ 9).
«فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبُّك، لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيتَ مؤونة الطلب، وعوفيتَ من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه..».
8 ـ التربية مسؤولية فردية واجتماعية عامة:
(يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنفُسَكُمْ وَأهلِيكُمْ ناراً وَقودُها النّاسُ والحِجارَةُ) (التحريم/ 6)، (ولتَكُنْ مِنْكُمْ اُمَّةٌ يَدعُونَ إلى الخَيرِ وَيَأمُرونَ بِالمعرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَاُولئِك هُمُ المُفلِحُون) (آل عمران/ 104).
هذه هي أهم الاُسس والمرتكزات التي يقوم البناء التربوي على أساسها، وتخطّط المناهج وبرامج التربية بوحي منها.
www.balagh.com