من الأمور المهمة والمؤثرة في أي عمل إداري أو تنظيمي نمط وروح القيادة.
ولقد صار الناس قديما وحديثا في محاولة التعرف علي أسرارها وأساس ومناط نجاحها وفعاليتها. ولن أخوض كثيراً في تلك المحاولات التي قتلت بحثا، وإنما سأحاول في هذه العجالة أن أطوف بك عزيزي القارئ مباشرة حول هذا الموضوع الشائك، في رياض الإسلام الوارفة،عسانا نقف في نهاية الأمر على ملامح وأبعاد نمط القيادة الفعال الذي إذا حاولنا أن نحذو حذوه حققنا النجاح والفلاح لمنظماتنا ، خاصة وأننا إنما نعترف من معين ليس بعيدا عنا ولا غريبا علينا ،وسوف يكون القرآن هو منبعنا....
القائد النموذج في القرآن : لقد تناول القرآن القائد في آيات عديدة ومواقف مختلفة، ومن زوايا وأبعاد متكاملة منها ما يحدد كيف يتم اختياره وما هي المقومات التي تبرر ذلك، مثل ما حدث في موقف طالوت، ويوسف عليهما السلام، ومنها ما يتناول نمط وأسلوب القائد مع أتباعه مثل تلك الآيات التي وردت في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في القيادة والتعامل مع أتباعه، ومنها ما يتعامل ما دوره في التغيير والتأثير على من حوله، وكل من هذه الجوانب يحتاج إلى مقالة مستقلة لكننا اليوم سنحاول أن نركز على الجانب الخاص بنمط القيادة الذي يحدده القرآن للقائد الفعال والقدوة..
آية جامعة: توجد آية أساسية جامعة لأهم ملامح القائد الفعال من المنظور الإسلامي، وهناك العديد من الآيات، والمواقف الأخرى المكملة لها في القرآن.
وهذه الآية هي : "فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفو عنهم، واستغفر لهم،وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين" (آل عمران 159)
وآية أخرى تصف الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا في آخر سورة التوبة وهي : "لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم" وأعتقد أن هاتين الآيتين تمثلا معا أهم ما يحدده مقومات القيادة الناجحة وكل ما يرتبط بها من صفات أو سمات أو أنماط ، فما هي يا ترى تلك المقومات؟
مقومات القيادة الناجحة ونمطها في الإسلام:
قبل الدخول في تفصيل ذلك أحب أن أذكر أن أغلبنا ربما لا يذكر من الآية الجامعة الأولى فقط إلا قوله تعالى"وشاورهم في الأمر.." ويستشهد بها عند المواقف المختلفة التي تستدعي ذلك، وبالرغم من أهمية هذا الأمر إلا أن هذا البتر للآية يظلم موضوع الشورى في الإسلام بشكل كبير، لذا علينا أن نمضي مع الأمر من أوله إلى آخره حتى نتعرف معا على كافة المقومات المتكاملة لتكوين النمط القيادي الفعال كما يصوره القرآن والذي يمكن تلخيصه في الآتي:
1- اللين:
فأول ما يجب أن يكون عليه القائد مع أتباعه هو اتباع أسلوب اللين، واللين عكس الشدة والقسوة، ولكنه ليس ضعفا أو جنبا، وهذا هو أكبر خطأ يقع فيه الكثير من القادة حينما يتصورون اللين ضعفا، والشدة والقسوة قوة وهذا قمة خطأ.
لذا فإن أول ما يؤكد عليه القرآن هنا هو اتباع القائد لجانب اللين مع المرؤوسين، لدرجة تصل كما يذكر القرآن في آيات أخرى إلى خفض الجناح "واخفض جناحك عن الذين اتبعك من المؤمنين"
وهذا الأسلوب هو الذي يجعل العلاقة بين القائد والاتباع علاقة تواصل وحب وتفاهم، وتعطي جواً من الثقة والانفتاح والتشجيع على المبادرة والابتكار، وتقتل روح الخوف أو القهر التي قد تسلك إلى النفوس دون أن ندري نتيجة للأسلوب القاسي العنيف. ومن هنا يعتبر القائد اللين في طبعه هو أكثر القادة تجميعا لمن حوله وتأثيرا فيهم، وتحقيقا للهدف.
2- البعد عن الفظاظة:
والفظاظة هنا هي في القول اللاذع الشديد وقد تكون طبعا في الإنسان لا يستطيع التخلص منه، وقد تعتريه في أوقات أو ظروف معينة نتيجة لما يتعرض له من ضغوط، وما يعتريه من مشاكل أو أزمات، فتجعل تعامله وخاصة ردوده وكلماته مع من حول لا تكاد تخلو من نقد لاذع أو توبيخ أو تعنيف أو استهزاء......الخ. مما يخلق في نفوس من حوله حالة من الفزع والرعب التي تجعلهم يترددون كثيرا قبل أن يشاركوا برأي أو يدلون بنصيحة، فيكفي من هذا القائد مجرد تعليق صغير بلفظ حاد ليخمد أي حماس للمشاركة أو المبادرة في نفس كل من تول له نفسه أن يقول رأي خاصة إن كان لايجاري هوى هذا القائد.
3- البعد عن غلظة القلب:
وغلظة القلب وما تنطوي عليه من قسوة شديدة تتحول مع الوقت إلى سمة وقسمات جامدة ترتسم على وجه مثل هذا الشخص لدرجة تجعل من نظراته القاسية وليس من كلماته فقط – سهاما حادة تخمد أي محاولة للإبداع أو الانطلاق أو الابتكار في نفوس من حوله خاصة إذا كانت لا تتمشى مع رأي وهواه، ومع الوقت تحول من حوله إلى مجرد أتباع خائفين مرتعشين مترددين، أو منافقين مسبحين لحمده ومرددين لما يقول، وفي جميع الأحوال تؤدي تلك الصفة والتي قبلها إلى حالة من النفور النفسي من المرؤوسين لقائدهم تجعلهم ينفرون منه ولا يربطهم به إلا القهر، فإذا كان لهم الخيرة من أمرهم فسوف ينفضون عنه لا محالة.
4- العفو:
يلاحظ أن العفو عن الاتباع والمرؤوسين هنا جاء في صيغة الأمر، بينما كانت الصفات الثلاث السابقة تقرر حقيقة ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من لين، وبعد الفظاظة وغلظة القلب والعفو هنا من الأمور الأساسية والضرورية لأي قائد كي يتمكن من خلق مناخ حقيقي للشورى والمشاركة والإبداع.
وذلك أن أي جو للعمل لن يخلو من خلاف أو تقصير أو خطأ من جانب المرؤوسين فإذا لم يتعلم القائد كيف يعفو ويتسامح بشكل إيجابي وفعال ويتناسى هذا الخطأ بمجرد علاجه ويذكر صاحبه بضرورة الإقلاع عنه والندم عليه، فإن الأمر ضئيلة يكون من القسوة والشدة على نفس المخطئ لدرجة تجعله يستشعر الخجل من نفسه والتواري عن الأنظار، بل والإحجام عن أي محاولة للمشاركة الفعالة أو إبداء الرأي حتى وإن كان صوابا، خاصة إذا لم يحجم القائد عن تذكير مرءوسيه من وقت لآخر بعيوبه وأخطائه وتأنيبه عليها وسخريته منها.
لذا كان من الضروري للقائد أن يعفو ويصفح، وليس معنى ذلك تجاهل الأخطاء، وإنما يكون علاج الخطأ في حينه وتطوى الصفحة السوداء تماما ويبدأ القائد صفحة جديدة، ولعل أفضل ما يعلمنا ذلك قوله تعالى في معالجة أخطاء الزوجة بعد أن حدد التدرج في العلاج بالعظة، ثم بالهجر، ثم بالضرب غير المبرح، ثم يقول تعالى: "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهم سبيلا، إن الله كان عليا كبيرا".
إن أسوأ القادة هو ذلك الذي يذكر المرؤوسين بأخطائهم ونقاط ضعفهم من وقت لأخر
5- الاستغفار لهم:
إذا كانت الصفات السابقة تعتبر أساسية ويمكن للقادة اكتسابها ليحققوا النجاح بصرف النظر عن عقيدتهم أو إيمانهم، فإن هذا الأمر على وجه الخصوص يعتبر من الأوامر الذي لا يمكن أن يتصف بها إلا مؤمن حق. لأن الأمر هنا تحظى مرحلة الرسميات ووصل إلى مرحلة القلوب والعواطف الشغوفة والحب الشديد الذي يجعل القائد لا يكتفي بالعفو فقط عن أخطاء اتباعه، وإنما يحرص على أن يستغفر لهم الله كي يعفو عنهم أيضا، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا من قلب نقي، رقيق، سليم، محب لمن حوله، رحيم، بل إن مجرد هذا الاستغفار الذي لا يكون إلا بين المرء وربه يترك أثرا طيبا في نفس كل من القائد والمرؤوس دون أي تدخل مباشر وهذه لغة القلوب، التي لا يعلمها إلا الله، ولك أن تجرب ذلك وبصدق ويقين وسوف تجد بنفسك كيف تتغير النفوس وتنتهي المشاكل التي لم يكن لها قبل ذلك علاج.
6- الشورى في الأمر:
لعلي أكاد أزعم أن كل ما سبق ليس إلا تمهيد لهذا الأمر، وفرشا ومناخا لإيجاد جو إيجابي لممارسة شورى حقيقية وليست شكلية، تقوم وتبني على الجوهر وليس على المظهر.
فهل يمكن أن يكون هناك شورى حقيقية في ظل الشدة، والقسوة، والفظاظة والغلظة؟!
لاشك أنه مهما كانت النظم والشكليات والادعاءات والممارسات التي تدعى ذلك، فإنها ما لم يتوافر فيها المقومات الخمس السابقة، لن تكون إلا مجرد شورى شكلية ديكورية جوفاء.
لذا فإن الإسلام لا يدعو فقط إلى نمط قيادة تشاوري، وإنما يضع ضمان ومقومات ممارسته وتحقيقه على أفضل صورة وأكمل وجه.
7- العزيمة وعدم التردد:
لاشك أن أي قرار يتم بناء على كل ما سبق قد استوفى مقومات صنع القرار الصحيح بطريقة صحيحة، لذلك من الأسوأ الأمور أن يتردد القائد بعد اتخاذ القرار، خاصة إذا كان رأي الأغلبية مخالفا لرأيه ورضخ هو لرأيهم، ثم حاولوا الرجوع إرضاء له، وهذا هو ما حدث بالفعل حينما استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد وأشاروا بالخروج للأعداء خارج المدينة وكان خلاف رأيه صلى الله عليه وسلم فلما دخل لارتداء عدة الحرب ندموا وقرروا الرجوع عن رأيهم لرأيه وأخبروه بذلك بعد خروجه ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان لنبي بعد أن لبس لأمته وخرج للحرب أن يرجع" ومضى لتنفيذ ما اتفق عليه.
إن أكبر آفة من آفات اتخاذ القرارات هي التردد..
8- التوكل على الله:
ولا تنسى في خضم كل ذلك أنك إنما تسير بفضل الله وحوله وقوته ورعايته وعنايته، فإذا أخذت بكل الأسباب والمقومات السابقة فأنت متوكل فاستحضر توكلك
وهنا نلاحظ أن الآية ختمت بقوله: "إن الله يحب المتوكلين"
وصفة التوكل من الصفات أو الأخلاق الإيمانية، أي التي لا تكون إلا للمؤمن وهي صفة جامعة، فإذا أردت أن تعرف المعنى الحقيقي والمختصر للتوكل فهو أن تعمل على أخذ كافة الأسباب الموصلة إلى النجاح في أمر ما كأنه ليس هناك أي احتمال للنجاح إلا باتباع هذه الأسباب فقط، ثم تتوكل على الله في كل ذلك وبعد بقلبك وتفوض الأمر إليه ابتداء من توفيقه لك لهذه الأسباب وتوفيقه لك في النتائج المرضية، وأن يكون يقينك في التوكل على الله والثقة في عونه لك وأنه معك، كأن ليس هناك أدنى اعتماد أو ركون للأسباب.
وليس معنى التوكل أن يأنس المرء إلى الكسل والدعة والتخلف عن ركب العمل الجاد الموصل للنجاح والفلاح فهذا لا يحبه الله ولا يرضاه، وإنما يحب فقط المتوكلين عليه حق التوكل وبهذه الكيفية التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والتي أرشدنا إليها هذه الآية بشكل عملي ومحدد، ما الذي يجب أن يكون عليه القائد من مقومات حتى يظفر بحب الله وتأييده ومن ثم النجاح والفعالية والفوز أو بلفظ جامع الفلاح في الدنيا والآخرة.
فانظر يا أخي لم تتغير أحوالنا ومنظماتنا إن نحن غيرنا أنفسنا ونمط قيادتنا ليكون على هذا المستوى الرائع الذي يدعو إليه القرآن العظيم، لكن وقبل أن نتركك قد يرد الذهن سؤال وكيف كان نمط الرسول صلى الله عليه وسلم القيادي؟ وما هي الصفات القيادية التي حرص القرآن على ذكره فيه صلى الله عليه وسلم ؟
وكيف يمكن لنا أن نتعلم منها ونقتدي بها؟وما هي النتيجة المتوخاة من وراء ذلك؟
كل هذا يحتاج منا إلى وقفة أخرى متأنية وهذا ما سوف نتابعه معا في الأسطر القادمة